بعد أن كانت تعتبر من
أكثر الدول فسادا ، أصبحت سنغافورة خلال الثلاثين سنة الأخيرة أقل الدول فسادا في
أسيا ومن بين اقل الدول فسادا على مستوى العالم وفق معايير منظمة الشفافية
العالمية.
ونجحت إدارة الدولة في
تحويل مجتمع متعدد الأعراق وقليل الموارد الطبيعية إلي مجتمع مزدهر متطور يوفر
أفضل الخدمات لمواطنيه، ونقلت الدولة الفقيرة العديمة الموارد إلي احد أهم عواصم
التجارة والمال.
ومن خلال الفرصة التي
أتيحت لنا بالإطلاع الجزئي على تجربة سنغافورة بشـأن مكافحة الفساد بفضل البرنامج
الذي نظمه المجلس الوطني للتطوير الاقتصادي بالتعاون مع مكتب الأمم المتحدة
لمكافحة الجريمة والمخدرات لاحظنا أن النظام في هذه الدولة انطلق من إرادة سياسية
ثابتة وواضحة في إيجاد نظام يضمن للدولة البقاء في ظل الظروف الصعبة التي وضعت
فيها بعد استقلالها عن ماليزيا. هذه الإرادة حددت منهجا يقوم على عدة مرتكزات عند
انطلاقه منها:
ـ التركيز على وجود
قوانين صارمة وضمان سيادتها بتطبيقها الفعلي وعدم التساهل في ذلك، مع العمل على
استقرار أجهزة الدولة واتصافها بالكفاءة والنزاهة والانضباط.
ـ ضرورة ترتيب
الاولويات وتحديد المصالح الأولى بالرعاية بشكل واضح، ومن ذلك تعارض المصلحة
العامة مع المصلحة الخاصة أو الحريات والحقوق الفردية يوجب تغليب المصلحة العامة
كما سيظهر لا حقا في عدة مجالات منها المجال الجنائي في شقيه الموضوعي والإجرائي،
وتعارض الحريات الفردية مع موجبات التنمية الاقتصادية والحكومة الفعالة يوجب تغليب
الثانية. وبناء على هذا المرتكز المتمثل في خصوصية ترتيب الأولويات ينظر أيضا في
إمكانية تبني المعايير الدولية، والاستفادة من التجارب المقارنة.
ـ النظر في مآلات
الأفعال بغض النظر عن أي تأصيل فلسفي أخر، فلتبني نظام أو حكم قانوني معين، وللنظر
في إمكانية الإبقاء عليه أو تعديله أو إلغائه يجب قياس نتائجه السلبية والايجابية
المتوقعة أو المترتبة على إعماله. ومن ذلك، بناء وتعديل معايير اختصاص السلطة
التشريعية والتنفيذية على أساس عملي مرن يضمن سرعة الإنجاز وفاعلية الأداء لا على
أساس نظري مجرد، فالمسائل الفنية التي يجب أن يضعها متخصصون لا يجب أن تكون من
اختصاص البرلمان.
ومن ذلك – أيضا- دراسة
القوانين من خلال تتبع تطبيقها واستخلاص الإشكاليات الناتجة عنها، فكثرة القضايا
التي تنجم عن قانون معين هي من الأسباب الرئيسة لتعديله. فمع أن القاعدة القانونية
عامة ومجردة إلا أن الحالات التطبيقية الجزئية هي التي تؤسس لتعديل في الحل الكلي.
فالمنهج هو منهج
برجماتي عملي مرن ، لا تحكمه أي محددات أيدلوجية.
ـ النظر في مدى
الاستفادة من حلول ومشاكل الدول الأخرى في جميع المجالات. ويمتد ذلك لمحاولة أن
تقدم الدولة حلا للآخر يشكل مورد دخل اقتصادي لها، ومن ذلك أن تقوم الدولة بما لا
يتوافر لدي الدول الأخرى أو لا تستطيع القيام به أو لا تريد عمله. ومثال ذلك
الاستفادة من التنافس بين المنتجات اليابانية والأمريكية بحل مشكلة المنتجات
الأمريكية بتقديم حل لها يمكنها من الإنتاج بتكلفة اقل وجعلها اقرب للسوق
الاستهلاكي الآسيوي. وتوفير حاجة المستثمرين بإيجاد نظام شفاف ومنضبط يمكن
المستثمر من حساب نتائج استثماره.
أما بخصوص مكافحة
الفساد، فان النظام قائم على دعامتين أساسيتين يكمل كل منهما الأخر. حيث تنقسم
سياسة الدولة في هذا المجال إلي سياسة الوقاية من الفساد وسياسة الكشف عنه والعقاب
عليه.
أولا
/ سياسة الوقاية من الفساد:
سياسة الوقاية من
الفساد في هذه الدولة واسعة النطاق، فبالإضافة إلي التوعية وتأمين الضبط الاجتماعي
بوسائله المختلفة، عملت الدولة على سن عدة تدابير منها:
ـ الفصل بين الوزارات
وإدارة التنفيذ، حيث يتولى التنفيذ في الغالب هيئات ومؤسسات منشأة بقانون. ومن شأن
ذلك تفريغ الوزارة من سلطة التنفيذ وإزالة سبب ما يمكن أن يترتب عليه من فساد ولا
يبقي للوزارة إلا التفكير الاستراتيجي للمدى المتوسط والبعيد.
ـ رفع مرتبات الموظفين
في الدولة بشكل يجعل منها كافية لتوفير مستوى حياة كريمة، فدفع أجور مرتفعة أهم
رادع للفساد.
ـ تبسيط الإجراءات
الإدارية والحد من المستندات المطلوبة للحصول على الخدمة مع وضع مدونة إجراءات
إدارية واضحة.
ـ تفادي المنطقة
الرمادية في سلطة الموظف العام بالتضييق من سلطته التقديرية بوضع معايير دقيقة
يستند عليها في أدائه لعمله، لان التوسع في السلطة التقديرية للموظف العام موجب من
موجبات الفساد وسبب من أسباب إضعاف الرقابة الفعالة على عمله.
ـ تركيز الاختصاص في
جهة معينة من اجل تركيز المسؤولية. ومن ذلك وحدة الجهة المختصة بمنح الترخيص في
مجال معين.
ـ الحد إلي اكبر قدر من
تعامل الموظفين بالمال(الموظف لا يرى المال وإنما يرى الأرقام)، فالرسوم والغرامات
تدفع الكترونيا، ذلك لان التقليل من لمس الموظف للمال يوفر الجهد والوقت ويقلل من
الفساد. ومن اجل ذلك وجدت عدة نقاط لتعليم الناس كيفية الدفع الالكتروني.
ـ التوسع في تقديم
الخدمة بالطريق الالكتروني، حيث هناك 1600 خدمة تتم من منزل الشخص الطالب لها، ومن
ذلك خدمة الحصول على 71 نوعا من التراخيص عبر الانترنت( e citizen). ومن شأن ذلك كسب الوقت
والجهد والتقليل من الاتصال المباشر بين الموظف وطالب الخدمة.
ـ إيجاد أنظمة شفافة
تؤدي إلي التقليل إلي حد كبير من الأسرار التي يملكها الموظف العام بسبب وظيفته،
بحيث أن الموظف الذي لا يملك أسرارا لا يجد أسرارا لبيعها. ومن ذلك وجود نظام واضح
المعالم ومفتوح للمشتريات الحكومية يمكن الإطلاع عليه من خلال مركز الأعمال الالكترونية
(Ge Biz)
وهو بوابة للمشتريات الحكومية تسمح للمتقدمين بعروض رؤية كل الصفقات والمواصفات
المطلوبة.
ويقع في نفس الإطار
ضرورة نشر إجراءات العقود الإدارية ونتائجها عبر الانترنت.
ـ الفحص المسبق للحالة
الاجتماعية للأفراد قبل التوظيف، وإمكانية تدخل الهيئة العامة لمكافحة الفساد
كتدبير وقائي لمنع موظف ما من تولي منصب قيادي أو عمل سياسي بسبب شبهات سابقة
بالفساد. كما الهيئة يمكن أن تتدخل بالتوصية بعدم التعاقد مع شركة ما لسبق اتهامها
بالفساد. ويلاحظ هنا كفاية الاتهام دون الحاجة لان يصدر حكم قضائي بالإدانة.
ـ الحد من نشر ثقافة
الفساد ومن الحديث عن الفساد في الوسط الاجتماعي، ومن اجل ذلك يعتبر نشر إشاعات
حدوث فساد أو الحديث مع أخر بشأن قضية فساد دون وجود أدلة واضحة جريمة في حد ذاته.
ـ حظر استعمال الصفة في
الأماكن التي تقدم خدمات بالنسبة للقضاة وأعضاء النيابة العامة والموظفين العامين
كافة. وإذا ما ظهر بيان الوظيفة في مستند رسمي، فيجب أن يكون ذكره بالقدر اللازم،
كأن يدون انه قاضي دون أي تفصيل أخر.
ـ تحديد أجل ستة أشهر
يجب أن تفصل فيه المحاكم في القضايا المعروضة عليها وعدم التأجيل لتاريخ يتجاوز
هذا الأجل، مع تحديد اجل سنة كحد أقصى يجب أن ينتهي فيه التحقيق والإحالة إلي
المحكمة أو حفظ الأوراق. ذلك أن إطالة عمر القضية في التحقيق ومرحلة المحاكمة مؤشر
من مؤشرات الفساد أو الإهمال. كما أن العدل المؤخر هو عدل مرفوض.
ثانيا/
السياسة الجنائية بشأن مكافحة الفساد:
تشمل السياسة الجنائية
في مجال الفساد- كغيرها من السياسات الجنائية - جانبا موضوعيا وآخر إجرائيا.
فبالنسبة للجانب
الموضوعي تبني المشرع السنغافوري تشريعا خاصا بمكافحة الفساد توسع في تجريم الفساد
ومن ذلك تجريم الرشوة في القطاعين العام والخاص واعتبار عدم إبلاغ الموظف عن جريمة
عرض الرشوة عليه جريمة مستقلة. ونص القانون المشار إليه على جرائم الفساد بعبارات
واسعة شبيهة بتلك التي تلجأ إليها كثير من التشريعات عندما يتعلق الأمر بالجرائم
الماسة بأمن الدولة ومنها الباب الأول من الكتاب الثاني في قانون العقوبات الليبي.
يلاحظ أن هذا المنهج في التجريم لا يستجيب لمتطلبات مبدأ الشرعية الجنائي في شقه
الموضوعي.
ونص هذا القانون الخاص
على عقوبات السجن والغرامات المرتفعة والمصادرة والرد، وفي حالة عدم الرد تضاعف
عقوبة السجن. مع استبعاد التداخل بين العقوبات في حالة التعدد، حيث يجب أن تتعد
العقوبات بتعدد الجرائم دون أي اعتبار للتتابع بين الجرائم ووحدة الغرض الإجرامي (
الارتباط غير القابل للتجزئة والجريمة المتتابعة).
أما بالنسبة للجانب
الإجرائي، فهو قائم على فكرة أساسية هي حتمية العقوبة بحيث صيغت أحكامه على أساس
ضرورة إدراك كل شخص انه في حالة ارتكاب جريمة من جرائم الفساد لابد أن يكتشف
ويعاقب، وان جرائم الفساد قليلة المردود بالنظر لكثرة مخاطرها.
ويمكن إجمال خصائص
النظام السنغافوري في مكافحة الفساد على النحو التالي :
ـ وجود هيئة تتبع رئيس
الوزراء ويعين أعضاؤها بقرار منه بعد أن كانت تابعة لوزارة الداخلية، تتولى دون
غيرها جمع الاستدلالات والتحقيق في قضايا الفساد ، وتختص بمباشرة ذلك في مواجهة
الكافة دون تفرقة بين المدنيين والعسكريين وبين القضاة وأعضاء النيابة والسياسيين
وغيرهم من الموظفين العامين والعاملين في القطاع الخاص. ويتجاوز دورها الضبط
القضائي ليمتد إلي الجوانب الإرشادية والضبط الإداري الوقائي، ومن ذلك أن لها أن
تمنع شركة من الدخول في مناقصة لمدة خمس سنوات أو نهائيا وتحول دون تقلد موظف عام
مركز قيادي . ما يعني أنها يمكن أن تفرض عقوبة لمجرد شبهات بالفساد، وهو ما يتعارض
مع مبدأ قضائية العقوبة.
ويلاحظ انه يجب أن ينظر
لتبعية هيئة مكافحة الفساد لرئيس الوزراء في أطار خصوصية نظام النيابة العامة في
سنغافورة الذي يقوم فيه النائب العام بوظيفيتين احدهما قضائية والأخرى استشارية،
والذي يختلف بشكل جدري عن نظام النيابة العامة وصلاحياتها وعلاقتها بالسلطة
التنفيذية وعلاقة مأموري الضبط القضائي بها في النظام القانوني الليبي.
ـ إعطاء سلطات واسعة
لأعضاء هيئة مكافحة الفساد في الكشف عن الجرائم ومنها مراقبة التغييرات التي تطرأ
على حياة الموظفين وإمكانية الإطلاع على حساباتهم المصرفية، حيث لا وجود للسر
المصرفي في هذا المجال( تغليب متطلبات فاعلية مكافحة الفساد على متطلبات حماية
الخصوصية الفردية).
ـ يعتبر نظام المخبرين
من الجمهور والموظفين من أهم الوسائل التي تعتمد عليها هيئة مكافحة الفساد ومصلحة
الضرائب وغيرها من الجهات التي تختص بالتحقيق في قضايا الفساد والتهرب الضريبي في
التحريات وجمع الاستدلالات ( نظام استخباراتي يبدو انه فاعل ودقيق بالنظر إلي
نتائجه والتي منها أن 80% من حالات التهرب الضريبي اكتشفت بواسطة المخبرين).
بالإضافة إلي البلاغات التي تقدم من الأكثر دراية بها عند وقوعها وهم العاملون في
القطاعين العام والخاص بشأن جرائم الفساد والتهرب الضريبي.
وتعتمد الجهات المختصة
على آلية المكأفاة التي تقاس على أساس نسبة معينة من قيمة المال محل الجريمة على
أن لا تتجاوز مائة ألف دينار لمن يبلغ عن الجريمة.
مع ملاحظة أن النظام
يضمن سرية المخبرين حتى بعد انتهاء التحقيق لحمايتهم ولضمان فاعلية أدائهم
لإعمالهم، ولا يعطى اسم المخبر حتى للقاضي إلا إذا أصدرت المحكمة أمرا خاصا توجب
فيه الكشف عن شخصيته.
ـ تسهيل إثبات جرائم
الفساد بإيجاد ما يسمى بقرائن الإدانة، والتي منها أن أي زيادة غير مبررة في دخل
الموظف العام تلاحظ من خلال مراقبة طريقة معيشته تعتبر قرينة على كسبه مال فاسد،
إلا إذا اثبت العكس.
كما انه ليس من حق
المتهم الصمت وإخفاء معلومات عن المحققين( وكأنه يلزم بالشهادة ضد نفسه).
ـ استعمال أعضاء هيئة
مكافحة الفساد للوسائل التقنية للتحقيق ومنها جهاز كشف الكذب لجمع المعلومات
والتأكد من مصداقيتها وللتوصل لضبط التحقيق في اتجاهه الصحيح مع ملاحظة عدم
إمكانية الاعتماد عليه كدليل للإدانة.
ـ استبعاد الحصانة
الإجرائية ، بحيث يمكن أن يباشر التحقيق وترفع الدعوى الجنائية ضد كل من تتوافر
دلائل على ارتكابه جريمة من جرائم الفساد وترفع الدعوى الجنائية في مواجهته دون أن
يتوقف ذلك على أذن جهة ما . وهذا على خلاف التشريع الليبي الذي يتوسع في منح
الحصانة الإجرائية، ويعطي إمكانية تعطل تفعيل القانون بالقانون، ويمد الحصانة لما
بعد انتهاء الوظيفة وهو ما عليه نص المادة ( 21 ) من القانون رقم (1) لسنة 2006 ف.
ـ إتباع نظام في
المحاكمة وتنفيذ أحكام الإدانة يسمح بدعم الثقة في النظام القضائي وتحقيق وظيفة
الردع العام ووصم مرتكب الفعل بوصمة الفساد في المجتمع بحيث يكون عبرة لغيره،
فالمحاكمات علنية والأحكام الصادرة في قضايا الفساد يجب أن تنشر ويمكن للكافة
الإطلاع على منطوقها.
ويلاحظ هنا أن أهم
الإشكاليات التي يعاني منها النظام القانوني الليبي هو عدم تنفيذ الأحكام القضائية
والتوسع في العفو الخاص، الأمر الذي يضعف إلي حد بعيد من فاعلية النظام القانوني.
ـ عند التحقيق في قضية
من قضايا الفساد يجب أن يتعدد المحققون ، بحيث لا يجوز أن يتولى القضية محقق واحد،
لضمان الشفافية وعدم التأثير عليه ( تعدد المحققين ضمان عدم التلاعب في القضية).
كما أن النظام القضائي
في مجمله قائم على أساس تبسيط إمكانية اللجوء إليه ووضوح إجراءاته وتنفيذ أحكامه ،
فهناك اعتماد على النظام الالكتروني في تسجيل الدعاوى وفي الحصول على المستندات
الخاصة بها لكل من له الحق في ذلك وفي الاعتراف بالجرائم وفي دفع الغرامات ، ويمكن
الإشارة لما يعرف بالمحاكم الليلية التي تمكن من استعمال حق التقاضي خارج ساعات الدوام
الرسمي المعتاد للدولة.
باختصار يمكن القول أن
الإرادة السياسية الواضحة في سنغافورة أنتجت قانونا فعالا ونظاما للتقاضي حياديا
وسريعا وإدارة ضبط إداري وقضائي تتميز بالصرامة والمهنية. مع ملاحظة بعض حالات
اختلال التوازن الإجرائي بين المصلحة العامة والمصلحة الخاصة.
عن مدونة باقات ليبية