الثلاثاء، 25 أكتوبر 2011

ربيع الثورات وخريف المنظرين

يخرج علينا من حين لآخر الاستاذ هيكل بتنظيراته التي تصر على وضع المشروع القومي كواجهة أحداث في القرن 21 رغم أن المشروع القومي وأحلامه إنهارت منذ سنة 1967 بسبب سوء قيادة عبد الناصر وعدم نضج اركان حكمه وقصر نظر مستشاريه وظل هذا المشروع يتداعى حتى أجهز عليه السادات سنة 1977 وتهاوت كافة هياكله خلال السنوات اللاحقة على أيدي متصنعي القومية وإن محاولة الايحاء بأن المشروع القومي مازال قائما ومازال الغرب يحاربه ويخشاه هي محاولة فاشلة لتصنع الاهمية والتوهم بالمساهمة في صنع الصورة الراهنة وهذه كلها مبنية على تاريخ الكاتب ومصلحته الشخصية .
وحتى عندما حاول لاحقا القومجيون العرب لملمة اشلاء هذا المشروع المتحطم لامتطاء صهوته لمآرب وأمجاد شخصية لم يفلحوا نظرا للبون الشاسع بين النظرية والتطبيق ونظرا لنوعية القيادات التي حاولت استعمال شعارات هذا المشروع وهي في أغلبها قيادات أفرزها نظام الوصول للحكم عن طريق الانقلابات العسكرية وهو نظام لايوصل الا أنصاف المتعلمين المتهورين محترفي المغامرة والمستعدين للتحول الى سفاحين عند أول تحدي يواجههم.
إن نمط الحكم الذي مارسه هؤلاء المغامرون ومتطلبات استقرارهم واستمرارهم في الحكم نتج عنها -وبطريقة عنيفة- تقسيم المجتمع الى طبقات رئيسية تشمل الطبقة الحاكمة والطبقة المستفيدة من الطبقة الحاكمة والطبقة المسئولة عن بقاء الطبقة الحاكمة وهذه الطبقات لا تمثل أكثر من 5% من المجتمع على أقصى تقدير وهي طبقات متشابكة المصالح تعيش فوق اطار القانون وخارجه وتتبع كافة الأساليب للحفاظ على النظام القائم أما الطبقة الرابعة  فتمثل بقية الشعب بمختلف أطيافه ومستوياته الاقتصادية والاجتماعية والثقافية ممن لاعلاقة لهم بالنظام الحاكم وهذه الطبقة يتم معاملتها بطريقة عنيفة ممنهجة تهدف الى وأد روح المواطنة والانتماء ونزع مشاعر العزة والكرامة من الفرد وتعمل على سلب كافة حقوقه  لضمان انكساره وانصياعه تحت السيطرة وقبوله بالنظام القائم وما عمليات القتل والنفي والسجن والتعذيب والمصادرة والحرمان الا جزء من آلية حكم تمارس علنا في هذه الدول لضمان استمرارها دون أن تتحرك في متصنعي الفهم والبطولة شعرة واحدة وعندما تتحرك هذه الطبقة المظلومة وتتملل تحت ضغط لايحتمل من القهر يبدأ هؤلاء المتصنعين بإتحافنا بتنظيراتهم غير الواقعية والتي لاتزيد الطين الا بلّة وتساعد على الهدم لا البناء.
إن هؤلاء السادة مازالوا يستعملون أدوات التحليل المستعملة في القرن الماضي لتحليل أحداث القرن الحالي وهو قرن تحول فيه العالم الى قرية صغيرة بسبب ثورة المعلومات والفضائيات وتقنية نقل الصورة وشاهد العيان وويكيليكس وهذا أدى الى عجز فاضح  في القدرة على فهم هذه الثورات ونحن عندما لانفهم فإننا لانتورع عن استعمال الآخر مشجبا لتغطية عجزنا.
إن ماحدث ويحدث في الوطن العربي هو ثورة بكل ماتعني هذه الكلمة من معنى شاء من شاء وأبى من أبى .. ثورة توفرت لها أدوات لم تكن متوفرة في السابق .. ثورة نشأت وتخلّقت في رحم الداخل وظهرت إرهاصاتها فيه واندلعت شرارتها لظروف داخلية ونمت وترعرعت في الداخل وان دخول اطراف خارجية على خطوط هذه الثورات للّحاق بها والبحث عن مصالحها لاينفي عنها انها ثورات أصيلة مهما ادعى المدّعون.
ان المتتبع لأحداث الثورة التونسية من شرارتها الاولى في سيدي بوزيد وكيف تطورت أحداثها فأطارت الرئيس وطارت وراءه وزيرة الخارجية الفرنسية التي لم تفهم ماكان يحدث ثم الثورة المصرية وكيف كانت تمضي بثبات حتى حققت هدفها وكيف كان الغرب وأمريكا وحتى قادة المعارضة المصرية الداخلية يركضون خلفها لفهم ما يحدث والاستفادة منه وكذلك الثورة الليبية وكيف تجمعت تراكمات السنوات السابقة وانفجرت في لحظة مفاجئة للجميع حتى للمشاركين فيها وبطريقة مدوية ودامية تتناسب مع حجم القهر المخزون في الوعي الجماعي للمجتمع الليبي وقس على ذلك في اليمن وسوريا والتي مازالت ثوراتها مفتوحة على كافة الاحتمالات يتأكد من أصالة هذه الثورات وأن محاولة الاطراف الخارجية فهم هذه الأحداث والاستفادة منها أوتحويلها لصالحها جاء لاحقا بعد حدوثها وهذا الامر جعل الهيئات أو القيادات السياسية لهذه الثورات تتعامل مع هذه الاطراف الخارجية لتحقيق مصالح هذه الثورات وأهدافها وفق المبدأ الاداري (مكسب+مكسب) وإن نجاح أو تعثر هذه القيادات السياسية  في تحقيق أقصى استفادة بثمن لايمس بالسيادة الوطنية والاستقلال مرهون بقوة الثورة على الارض والقدرة على الاستفادة منها والمناورة بها وكذلك مرهونة بردة فعلنا تجاهها ودعمنا لها واحتضانها أو تركها للآخرين يدعمونها ويستفردون بها.
إن اكتفاء القوى العربية والاسلامية بموقف المتفرج ومواقف المحللين والمنظرين أساتذة اللغة الخشبية ذات القوالب الجامدة وعدم دعم أو التحريض على دعم هذه الثورات هو ما أفسح المجال للآخرين أن يدخلوا ويقدموا الدعم المطلوب مقابل فوائد يجنونها مستقبلا وهذا مبدأ معمول به  في العلاقات الدولية شرط عدم المساس بالسيادة الوطنية وعلى من لا يريد لهذه القوى الخارجية أن تتدخل أن يقدم هو الدعم اللازم بدلا من استعراض معلومات وتواريخ وإسقاطات أكل عليها الدهر وشرب وهذه الثورة السورية والثورة اليمنية الآن في الحلبة لمن يريد العمل وقطع الطريق على التدخل الذي لايرغبون فيه والا فإن الدماء التي مازالت تسفك يوميا هي في رقاب كل من يعترض السبل المتاحة لايقاف هذا النزيف المريع لهذه الدماء الثمينة.
إن ماقامت به قطر والامارات وما قامت به تونس ومصر (من طرف خفي) لدعم الثورة الليبية يمثل نصف الطريق للوصول لمرحلة الدعم الكامل لمثل هذه الحركات من داخل المنطقة وعدم السماح للأجنبي بالدخول لها وإن النظر الى النصف المملوء من الكأس والعمل من خلاله لملء الكأس بأكملها أفضل من النظر الى النصف الفارغ ثم الجلوس للبكاء على الاطلال.
إن الجالسين في مكاتبهم  وأبراجهم ينظرون للامور من خلال نظاراتهم السميكة  ومساطرهم العتيقة  ويعملون على تحويل الاحداث الرائعة  والحقيقية الى اشياء مشوهة هم الذين يخدمون الاجندات الخارجية  إن مثل هذه الاحداث التي تدعو الى الفخر والاعتزاز والتي يمكن أن تساعدنا على اعادة بناء الشخصية العربية المحطمة بتاريخ أثخنه القومجيون والمتأسلمون بالجراح والنكبات وتقيض لنا سبل استعادة العزم والهمة والقدرة على التفاعل الايجابي مع معطيات حياتنا وتاريخنا والشعور باننا فاعلون مؤثرون فيها وهي فرصة يجب الا نفوتها ونستغلها بمزاياها وعيوبها لأن استقبال مثل هذه الاحداث بالاتهام والتخوين والتنقيص من قدرها لا يؤدي الا الى سقوط النفسية العربية من جديد في مستنقع الخور والعجز والاتكال على الآخرين الذين نتصور انهم لهم يد في كل شيئ ولكنهم يتميزون بامتلاك مهارة الاستفادة من كل حدث حتى لو لم يكن لهم يد فيه وهو ما يجب أن نتعلمه ونمارسه للحصول على الاستفادة القصوى من هذه الاحداث.       

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق